كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن "
" الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني
حذيفة بن اليمان
حذيفة بن اليَمان بن جابر العبسي وكنيته أبا عبد الله وكان صاحب سر رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ، جاء حذيفة هو وأخـوه ووالدهمـا الى رسـول الله واعتنقوا الإسلام
ولقد نما -رضي الله عنه- في ظل هذا الديـن ، وكانت له موهبـة في قراءة الوجوه و
السرائر ، فعاش مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن ومسالك الشرور ليتقيها ، فقد
جاء الى الرسول يسأله : ( يا رسول الله ان لي لسانا ذربا على أهلي وأخشى أن يدخلني
النار )000 فقال له النبي : ( فأين أنت من الاستغفار ؟؟000اني لأستغفر الله في اليوم
مائة مرة ) 000هذا هو حذيفة -رضي الله عنه-000
يوم أحد
لقد كان في ايمانه -رضي الله عنه- وولائه قويا ، فها هو يرى والده يقتل خطأ يوم أحد بأيدي مسلمة ، فقد رأى السيوف تنوشه فصاح بضاربيه : ( أبي ، أبي ، انه أبي !!)000ولكن أمر الله قد نفذ ، وحين علم المسلمون تولاهم الحزن والوجوم ، لكنه نظر اليهم اشفاقا وقال : ( يغفر الله لكم ، وهو أرحم الراحمين )000ثم انطلق بسيفه يؤدي واجبه في المعركة الدائرة000وبعد انتهاء المعركة علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك ، فأمر بالدية عن والد حذيفة ( حسيل بن جابر ) ولكن تصدق بها حذيفة على المسلمين ، فزداد الرسول له حبا وتقديرا 000
غزوة الخندق
عندما دب الفشل في صفوف المشركين وحلفائهم واختلف أمرهم وفرق الله جماعتهم ، دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- حذيفة بن اليمان ، وكان الطقس باردا والقوم يعانون من الخوف والجوع ، وقال له : ( يا حذيفة ، اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا !)000فذهب ودخل في القوم ، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لاتقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء ، فقام أبوسفيان فقال : ( يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه ؟)000قال حذيفة : ( فأخذت بيد الرجل الذي كان الى جنبي فقلت : من أنت ؟00قال : فلان بن فلان )000فأمن نفسه في المعسكر ، ثم قال أبو سفيان : ( يا معشر قريش ، انكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنوقريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ، ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فاني مرتحل)000ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير، يقول حذيفة: ( لولا عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الي الا تحدث شيئا حتى تأتيني ، لقتلته بسهم )000وعاد حذيفة الى الرسول الكريم حاملا له البشرى000
خوفه من الشر
كان حذيفة -رضي الله عنه- يرى أن الخير واضح في الحياة ، ولكن الشر هو المخفي ، لذا فهو يقول :(000
كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني000
قلت : ( يا رسول الله ، انا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟)000قال : ( نعم )000
قلت : ( فهل من بعد هذا الشر من خير ؟)000قال : ( نعم ، وفيه دخن )000
قلت : ( وما دخنه ؟)000قال : ( قوم يستنون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر )000
قلت : ( وهل بعد ذلك الخير من شر ؟)000قال : ( نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم اليها قذفوه فيها )000
قلت : ( يا رسول الله ، فما تأمرني ان أدركني ذلك ؟)000قال : ( تلزم جماعة المسلمين وامامهم )000
قلت : ( فان لم يكن لهم جماعة ولا امام ؟)000قال : ( تعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك )000
المنافقون
كان حذيفة -رضي الله عنه- يعلم أسماء المنافقين ، أعلمه بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وسأله عمر : ( أفي عمّالي أحدٌ من المنافقين ؟)000قال : ( نعم ، واحد )000قال : ( مَن هو ؟)000قال : ( لا أذكره )000قال حذيفة : ( فعزله كأنّما دُلَّ عليه )000
وكان عمر إذا مات ميّت يسأل عن حذيفة ، فإن حضر الصلاة عليه صلى عليه عمر ، وإن لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضر عمر000
آخر ما سمع من الرسول
عن حذيفة قال : ( أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي توفاه الله فيه ، فقلت : ( يا رسول الله ، كيف أصبحت بأبي أنت وأمي ؟!)000فردَّ عليّ بما شاء الله ثم قال : ( يا حذيفة أدْنُ منّي )000فدنوتُ من تلقاء وجههِ ، قال : ( يا حُذيفة إنّه من ختم الله به بصومِ يومٍ ، أرادَ به الله تعالى أدْخَلَهُ الله الجنة ، ومن أطعم جائعاً أراد به الله ، أدخله الله الجنة ، ومن كسا عارياً أراد به الله ، أدخله الله الجنة )000قلتُ : ( يا رسول الله ، أسرّ هذا الحديث أم أعلنه )000قال : ( بلْ أعلنْهُ )000فهذا آخر شيءٍ سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)000
أهل المدائن
خرج أهل المدائن لاستقبال الوالي الذي اختاره عمر -رضي الله عنه- لهم ، فأبصروا أمامهم رجلا يركب حماره على ظهره اكاف قديم ، وأمسك بيديه رغيفا وملحا ، وهويأكل ويمضغ ، وكاد يطير صوابهم عندما علموا أنه الوالي -حذيفة بن اليمان- المنتظر ، ففي بلاد فارس لم يعهدوا الولاة كذلك ، وحين رآهم حذيفة يحدقون به قال لهم : ( اياكم ومواقف الفتن )000قالوا : ( وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله ؟)000 قال : ( أبواب الأمراء ، يدخل أحدكم على الأمير أو الوالي ، فيصدقه بالكذب ، ويمتدحه بما ليس فيه )000فكانت هذه البداية أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد ، ومنهجه في الولاية
معركة نهاوند
في معركة نهاوند حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين ألفا ، اختار أمير المؤمنين عمر لقيادة الجيوش المسلمة ( النعمان بن مقرن ) ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة ، وأرسل عمر للمقاتلين كتابه يقول : ( اذا اجتمع المسلمون ، فليكن كل أمير على جيشه ، وليكن أمير الجيوش جميعا ( النعمان بن مقرن ) ، فاذا استشهد النعمان فليأخذ الراية حذيفة ، فاذا استشهد فجرير بن عبدالله )000وهكذا استمر يختار قواد المعركة حتى سمى منهم سبعة000
والتقى الجيشان ونشب قتال قوي ، وسقط القائد النعمان شهيدا ، وقبل أن تسقط الراية كان القائد الجديد حذيفة يرفعها عاليا وأوصى بألا يذاع نبأ استشهاد النعمان حتى تنجلي المعركة ، ودعا ( نعيم بن مقرن ) فجعله مكان أخيه ( النعمان ) تكريما له ، ثم هجم على الفرس صائحا : ( الله أكبر : صدق وعده ، الله أكبر : نصر جنده )000ثم نادى المسلمين قائلا : ( يا أتباع محمد ، هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم ، فلا تطيلوا عليها الانتظار )000وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس000
وكان فتح همدان والريّ والدينور على يده ، وشهد فتح الجزيرة ونزل نصيبين ، وتزوّج فيها000
اختياره للكوفة
أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا ، فكتب عمر لسعد بن أبي وقاص كي يغادرها فورا بعد أن يجد مكانا ملائما للمسلمين ، فوكل أمر اختيار المكان لحذيفة بن اليمان ومعه سلمان بن زياد ، فلما بلغا أرض الكوفة وكانت حصباء جرداء مرملة ، قال حذيفة لصاحبه : ( هنا المنزل ان شاء الله )0 وهكذا خططت الكوفة وتحولت الى مدينة عامرة ، وشفي سقيم المسلمين وقوي ضعيفهم 000
فضله
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- : ( ما من نبي قبلي إلا قد أعطيَ سبعة نُجباء رفقاء ، وأعطيتُ أنا أربعة عشر : سبعة من قريش : عليّ والحسن والحسين وحمزة وجعفر ، وأبو بكر وعمر ، وسبعة من المهاجرين : عبد الله ابن مسعود ، وسلمان وأبو ذر وحذيفة وعمار والمقداد وبلال )000 رضوان الله عليهم000
قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( استخلفتَ )000فقال : ( إنّي إنْ استخْلِفُ عليكم فعصيتم خليفتي عُذّبتُم ، ولكم ما حدّثكم به حُذيفة فصدِّقوه ، وما أقرأكم عبد الله بن مسعود فاقْرَؤُوه )000
قال عمر بن الخطاب لأصحابه : ( تمنّوا )000فتمنّوا ملءَ البيتِ الذي كانوا فيه مالاً وجواهر يُنفقونها في سبيل الله ، فقال عمر : ( لكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان ، فأستعملهم في طاعة الله عزّ وجلّ )000ثم بعث بمال إلى أبي عبيدة وقال : ( انظر ما يصنع )000فقسَمَهُ ، ثم بعث بمالٍ إلى حذيفة وقال : ( انظر ما يصنع )000فقَسَمه ، فقال عمر : ( قد قُلتُ لكم )000
من أقواله
لحذيفة بن اليمان أقوالاً بليغة كثيرة ، فقد كان واسع الذكاء والخبرة ، وكان يقول للمسلمين : ( ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة ، ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا ، ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه )000
يقول حذيفة : ( أنا أعلم النّاس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة ، وما بي أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اسرَّ إليَّ شيئاً لم يحدِّث به غيري ، وكان ذكر الفتنَ في مجلس أنا فيه ، فذكر ثلاثاً لا يذَرْنّ شيئاً ، فما بقي من أهل ذلك المجلس غيري )000
كان -رضي الله عنه- يقول : ( ان الله تعالى بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم-فدعا الناس من الضلالة الى الهدى ، ومن الكفر الى الايمان ، فاستجاب له من استجاب ، فحيى بالحق من كان ميتا ، ومات بالباطل من كان حيا ، ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على منهاجها ، ثم يكون ملكا عضوضا ، فمن الناس من ينكر بقلبه ويده ولسانه ، أولئك استجابوا للحق ، ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه ، كافا يده ، فهذا ترك شعبة من الحق ، ومنهم من ينكر بقلبه ، كافا يده ولسانه ، فهذا ترك شعبتين من الحق ، ومنهم من لاينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه ، فذلك ميت الأحياء )000
ويتحدث عن القلوب والهدى والضلالة فيقول : ( القلوب أربعة : قلب أغلف ، فذلك قلب كافر000وقلب مصفح ، فذلك قلب المنافق 000وقلب أجرد ، فيه سراج يزهر ، فذلك قلب المؤمن000وقلب فيه نفاق و ايمان ، فمثل الايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب000ومثل المنافق كمثل القرحة يمدها قيح ودم ، فأيهما غلب غلب )000
مقتل عثمان
كان حذيفة -رضي الله عنه- يقول : ( اللهم إنّي أبرأ إليك من دم عثمان ، والله ما شهدتُ ولا قتلتُ ولا مالأتُ على قتله )000
وفاته
لمّا نزل بحذيفة الموت جزع جزعاً شديداً وبكى بكاءً كثيراً ، فقيل : ( ما يبكيك ؟)000فقال : ( ما أبكي أسفاً على الدنيا ، بل الموت أحب إليّ ، ولكنّي لا أدري على ما أقدم على رضىً أم على سخطٍ )000
ودخل عليه بعض أصحابه ، فسألهم : ( أجئتم معكم بأكفان ؟)000قالوا : ( نعم )000قال : ( أرونيها )000فوجدها جديدة فارهة ، فابتسم وقال لهم : ( ما هذا لي بكفن ، انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص ، فاني لن أترك في القبر الا قليلا ، حتى أبدل خيرا منهما ، أو شرا منهما )000ثم تمتم بكلمات : ( مرحبا بالموت ، حبيب جاء على شوق ، لا أفلح من ندم )000وأسلم الروح الطاهرة لبارئها في أحد أيام العام الهجري السادس والثلاثين بالمدائن ، وبعد مَقْتلِ عثمان بأربعين ليلة000 مع تحيات اخوكم ابراهيم المخترع